بحث هذه المدونة الإلكترونية

صعوبات التقاعـــــــد


صعوبات التقاعد

الشيء الوحيد الذي يقوم به بعض الناس أنهم يكبرون سناً.. يضيعون الكثير من وقتهم منتظرين أن تتغير حياتهم.. بينما هم لا يقدمون على أي خطوة.. لا يتغيروا إلا عندما يكونوا مضطرين بعد أن تصبح الأمور حقيقة وواقع أمامهم.

فالبعض حين تحاصره ظروف شخصية أو اجتماعية قاسية يستسلم لها ولا يقاومها.. يشيخ دون أي محاولة لتغييرها.. وما أكثر الذين شاخوا في أماكنهم ومضت أعمارهم واستمروا كم هم.. تراهم يلوموا الحظ والأيام والظروف.. ولكنهم لا يلوموا أنفسهم.. رغم أنهم لو فكروا قليلاً لاكتشفوا بأنهم ربما ساهموا بصورة مباشرة أو غير مباشرة بوجود تلك الظروف في حياتهم. 

 أن صعوبات التقاعد ناتجة عن متغيرات كثيرة منها:

1.    المتقاعد وتقدم العمر وتناقص في القوة والصحة
تبدأ التجاعيد بالظهور على وجوهنا معلنة بأن الزمان الذي مر وضع توقيعه عليها.. وسرق هذا الزمان شبابنا في غفلة منا.. وعلينا مواجهة تقدم العمر الذي أضعف صحتنا النفسية وقوتنا الجسدية وحتى قدرتنا على التذكر.. حيث يزداد معدل الهدم مقابل البناء.. وكأن السن وحده اخذ يتحكم في كل مفاصل حياتنا.. لذلك ليس أمامنا وفق هذا الاعتقاد سوى الاستسلام للوضع الجديد الذي يفرض علينا التفكير بأننا لا نستطيع فعل شيء سوى انتظار قدرنا.. وتختصر الكلمة التركية فلسفة الاستسلام هذه:

 كلمة متقاعد تركية الأصل تعني موت وأنت قاعـد

لكن ليس على المتقاعد القبول بها.. أو أن يحبط وييأس بسبب الكبر.. فهو صحيح لا يستطيع أداء ما كان يؤديه سابقاً.. لكن لابد وأن لديه ما يعطيه.. سواء كان هذا العطاء لنفسه أو للآخرين.. ومع أن الزيادة في العمر إلزامية لكن الحفاظ على أطول فترة من الشباب اختياري.. فيصبح الإنسان في هذه الحياة كقلم الرصاص تبريه العثرات والصعوبات ليكتب بعدها بخط أجمل.. ويستمر هكذا حتى يفنى القلم.. ولا يترك خلفه إلا جميل ما كتب.

وهناك أمثله لا حصر لها في عدم توقف إنجازات الفرد بعد سن معين.. فقد بدء غاندي مقاومته السلمية للاستعمار البريطاني للهند في سن 61.. وغنت سوسن بويل لأول مرة في سن 48.. وكتبت لورا ولدرز قصة ومسلسل " بيت صغير في البرية" في سن 64.. وحصل اوسكار سوان على المدالية الأولمبية الذهبية وعمره 64 سنة، ومن ثم المدالية الفضية وعمره 72 سنة.

 وعلينا فقط التأمل في هذه الصورة التالية لندرك بأن لا شيء ينتهي حتى ينتهي فعلا.


2.    االمتقاعد والإحساس بالفراغ والملل والكسل
بعد أن يتوقف الفرد عن العمل يسيطر عليه الفراغ 
يضطر المتقاعد للبقاء بالمنزل بعد أن تعود على الاستيقاظ المبكر والذهاب إلى العمل.. ولا يعني وجوده بالمنزل مصدر رضا وسعادة له ولأسرته.. لذلك يشعر وكأنه أصبح غريب في بيته.. لأنه موجود في غير الوقت الذي اعتاد العودة إليه.. وإذا فكر بالخروج من المنزل.. فإلى أين يتجه؟.. ربما إلى أحدى المقاهي أو زيارة صديق والذي قد لا يكون متاحاً في هذا الوقت.. أو التجول في أي مكان دون هدف.. والوقت يتحول إلى مصيبة بالنسبة له.. فهو يمر بطيئاًً.. ويزيد من معاناته وإحساسه بالشفقة على نفسه.


3.    المتقاعد والخوف من التغيير
 التقاعد هو تغيير في حال الفرد.. فيحوله الزمن السريع من عامل إلى متقاعد لا عمل له في فترة زمنية تبدو وكأنها تمر سريعا بلمح البصر.. أن فكرة التغيير هذه تملئ النفس بالهواجس والخوف من الخوض في أي تجربة جديدة.. ويعتبر البعض أن أي تغيير هو مغامرة لا يرغب بالإقدام عليها.. فما بالك بالمتقاعد الذي يظن بأن ما تبقى من العمر لا يتحمل مغامرات وتجارب جديدة.


قد يشعر المرء في مرحلة التقاعد بلحظات الفراغ والملل والخوف من التغيير ببطء الحياة وطول الوقت.. وفي نفس الوقت يدرك بان العمر قصير ويمر بلمح البصر.. تناقض قد يشتت ذهنه ولا يعرف كيف يعبر عن ذلك الشعور دون أن يكون مرتبكاً في وصفه بالقول:
" ما أطول لحظات الملل في هذا العمر القصير "

فيتشاءم من المستقبل وتكثر أعذاره حتى لا يغير شيء في نمط حياته.. والأعذار أكثر الأمراض إعاقة.. لأنها مبررات لكل أمر لا يؤديه أو لا يرغب في تأديته.. ونسعى في هذه المدونة لمحاولة مساعدة المتقاعد في التغلب على الخوف من التغيير في صفحة هدفاً يملئ به المتقاعد الفراغ ويشعره بأهميته.. حتى يجد له محوراً جديداً لحياته غير العمل.. ليكون محفزاً له للاستمرار في المحافظة على حيويته ونشاطه وعدم الاستسلام لأغراء التقاعد الذي قد يعتقد البعض بأن الاسترخاء فيه يشجع على الكسل. 

4.    المتقاعد والشعور بعدم الأهمية
انحسار دور المتقاعد في الحياة يوحي له سلباً بأنه لم يعد مهماً.. فلا عمل ينتظره ولا أبناء يعتمدوا عليه لأنهم كبروا واستقلوا بحياتهم.. كالطيور التي تحلق في الفضاء دون الحاجة لوالديها.. وإذا اعتلت صحته يتضاعف الشعور لديه بالقلق بأنه أصبح عبئاً على الآخرين.. وقد تؤدي بالمتقاعد إلى الشفقة على الذات.. وهي عاطفة بدون أية قيمة.. فالحياة ليست مشكلة تحتاج إلى حل.. والتقاعد واقع يجب أن يستعد له.. ويبحث عن ما يملئ فراغ حياته.. ويتكيف مع ظروفه الصحية وواقعه الجديد.

وصفحة العيش حياة متوازنة في هذه المدونة تبين أهمية توازن الفرد بمحيطه الخارجي ليشعر بأنه لا زالت لديه الامكانات أن وظفها شعر بأهميته.. لأن الشعور بالأهمية ليس بالضرورة يتطلب منا أن نغير هذا العالم وننشد تصفيقه لإنجازاتنا.. بل هذا الشعور قد يأتي بتغيير تلك الأمور الصغيرة في حياتنا التي قد تجلب لنا السعادة والرضا.


5.    المتقاعد والمقارنة مع الماضي 
مساحة الماضي في حياة المتقاعد هي الأكبر.. فقد مرت فترة الصبا ثم فترة الشباب بكل ما حملتاه من ذكريات سعيدة أو سيئة.. وكثيراً ما يرتبط البعض بماضيه.. فيقارن بين ظروف هذا الماضي وظروفه الحالية.. وتفكير المقارنة هذا لا يمكن مقاومته.. فأن كان هذا الماضي يحمل ذكريات سعيدة وجميلة تحسر المرء عليه.. والبعض لا يكتفي بالحسرة بل ربما تمتلئ عينيه بالدموع.

 أما إذا كان الماضي سيئاً ندب حظه.. خصوصاً عندما ترد في خاطره تلك الفرص الثمينة التي أتيحت له ولم يستغلها ويستفيد منها.. أو سوء الطالع الذي صادفه.. وفي حال كان قد ارتكب بعض الأخطاء ندم عليها كلما تذكرها.. وبذلك يجعل من أحداث وأخطاء الماضي عبئاً عليه.. وهذا الإرث سيثقل خطاه في مشوار حياته.

يستحضر المتقاعد الماضي لأن الحاضر ليس كما رغب أو تمنى لذلك يهرب منه للذكريات.. ولأن في هذا الماضي شبابه وقوته وحماسه وصحته.. لذلك .

ماذا يستطيع البعض منا أن يفعل إذا كان الماضي هو كل رصيدنا.. ولهذا نشعر بالحنين إلى هذا الماضي ونسترجع ذكرياته لأنها أخر ما بقي لنا.. إن الوجوه ترحل وتختفي ملامحها ولا يبقى شيء منها.. ولكن يبقى ذلك الأحساس الذي جمعنا بها.. فنشتاق ونحن إلى ما عشناه يوماً من مشاعر مرت في حياتنا.. إن موقف أو ذكرى بسيطة يمكن أن نسافر خلفها كل سنوات عمرنا لأنها حملت أحاسيس ومشاعر أخذت مكانها في القلوب ولا يمكن نسيانها.


كما أن البعض الآخر يريد أن يصحح ماضيه.. لكن متى يدرك المرء بان الجسور قد تهدمت واستحالت معها العودة بالزمن إلى الوراء.. فلا يمكن استلهام الحكمة بأثر رجعي.. وفي النهاية هو ماضي لا يمكن أن يعيش ما كان جميل فيه مرة أخرى ولا يستطيع تغيير أحداثه أو تصحيح أخطاءه.. لا تفيد في ذلك الآهات والحسرة.. ولا أي عتاب أو ندم.. ولا اللوم وتعذيب النفس يفيد.. كما قالها الشاعر مرسي جميل عزيز وغنتها أم كلثوم في فات الميعاد 
" وعايزنا نرجع زي زمان قل للزمان أرجع يا زمان"


 أن ممارسة المتقاعد لأنشطة متنوعة ومتعددة تتلاءم مع طبيعته وظروف حاضره.. كما بينتها في صفحة اختيار المتقاعد لأنشطة تناسب شخصيته.
 
6.    إحساس المتقاعد بالوحدة
ويزيد فقدان المتقاعد لأصدقائه وزملاءه وكافة العلاقات بالآخرين التي كونها أثناء عمله من إحساسه بالوحدة.. خصوصاً إذا فقد التواصل معهم بعد التقاعد.. أو زارهم في العمل ووجدهم يواصلون حياتهم دون أن يفتقدوه.. وقد يشكو بأن هاتفه النقال لم يعد يرن كما كان ويشعره ذلك بالآسى.

هل على المتقاعد أن يدع الوحدة تنهش حياته!.. ويفرض الوحدة على نفسه ويعاقبها بجزاء لا داعي له.. كما هو الحال عندما تُضاعف العقوبة على المسجون بوضعه في سجن انفرادي.. باعتبار أن الوحدة هي العقوبة الأشد على النفس.

لذا هناك احتمالين أمام المتقاعد للتخلص من إحساسه بالوحدة.. إما أن يحاول إيجاد طريقة ليستمتع بنفسه عندما يكون وحيداً.. ويجعل من لحظات الوحدة ذات متعة وفائدة كما في صفحة

7.    الأسرة وحدها لا تعوض الفراغ
وفي هذه المرحلة قد يكون المتقاعد مخطئاً إذا ما أراد الاعتماد على الأبناء " زينة الحياة الدنيا " لتعويضه عما فقده من علاقات.. فيكتشف أن كل منهم نسج حياته الخاصة به.. والبعض الآخر منهم يتخلى أو قد تخلى فعلاً عن والديه مهما كانوا محتاجين له.



غطت وتعاملت العديد من صفحات هذه المدونة مع الفراغ الذي يسببه التقاعد ولا يمكن للأسرة أن تعوضه.. ويمكن الرجوع لتلك الصفحات ومنها إسعاد النفس دون الحاجة للآخرين وصفحة اختيار المتقاعد لأنشطة مناسبة لشخصيته وغيرها.
8.    المتقاعد وانخفاض العائد المادي
وتنخفض قدرة المتقاعد مادياً لكون المرتب التقاعدي أقل من مرتبه أثناء العمل.. وإذا لم يكن قد وفر له مصدر مالي إضافي آخر وفق تدبير مسبق.. فلن يستطيع المحافظة على مستواه المعيشي الذي كان يتمتع به قبل التقاعد ومواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة.


كسب الرزق من العمل هو الدافع الرئيسي للغالبية العظمى من العاملين.. وبغير المال لا يستطيع الإنسان أن يفي بالتزامات الحياة له ولأسرته أو يحافظ على كرامته التي قد تنقص منها حاجته للآخرين.
 
9.    العيش في الفخ
أصعب الامور عندما يجد المتقاعد نفسه في نهاية المطاف يعيش في فخ.. بالرغم من اكتسابه خبرة متراكمة من العمل والحياة بصفة عامة ولسنين طويلة.. فخ نصبته له ظروفه وساهم هو في صنع بقيته.. سواء كان باختياره أو كان مجبراً عليه أو حدث بغفلة منه.. بسبب تلك الأمور التي أجلها.. والقرارات التي لم يتخذها.. والفرص التي لم يستغلها.


لا يعرف كيف الخلاص.. فكل فكرة فكرها.. وكل فعل وردة فعل قام بها ساهمت في بناء النسيج من حوله.. في الحقيقة أنه لا يملك الحرية.. فالعائلة هي مسئولية لا يمكنه التخلي عنها.. والأهل والاصدقاء والمعارف هم ارتباط لا يمكنه الابتعاد عنه.. ونمط الحياة التي يعيشها اختارت له عادات لا يمكنه إلا الخضوع لها.. أذن لا خلاص.. لست قادراً على العمل ولا على الراحة كما قال أرفين رومل قائد في الجيش الالماني بعد الحرب.
 
تغيير الأساسيات في حياة المتقاعد يقترب من المستحيل لأن الواقع قد تراكم أمامه.. لذا لم يتبقى من مساحة للعب في الحياة سوى بالأمور الثانوية والصغيرة.. لا مفر من العيش في حوض الاسماك فقد بنيت جدرانه وحددت مكوناته.. وهو لا يعرف طريقاً آخر سوى الاستمرار في لعبة العيش بالحوض.. وأن عرف وكانت لديه الإمكانات فهو لا يستطيع التغيير والانتقال إلى البحر.. فسينقصه شيء هنا وشيء هناك.. ولن يكون سعيداً هنا ولن يكون سعيداً هناك.
 

المشكلة ليست في كل هذا.. المشكلة إذا لم نكن مرتاحين أو راضين عن نتيجة ما بنيناه.. كيف يمكننا هدم أي شيء؟.. كيف؟.. أن أفضل ما يمكننا عمله هو الاستسلام لواقعنا وإهمال وتجاهل التفكير في الفخ.. وكأن الأمر لا يعنينا.. وندعي امتلاكنا الحرية التي في النهاية لا يمكنها أن تتجاوز اسوار الحوض.. وقد نخدع أنفسنا ونعيش حياة مزدوجة ظاهره شيء وباطنها شيء آخر.. أو نسرح بالتغيير في احلام اليقظة من وقت لآخر.. لأن القيود التي جمعتها ظروفنا أصبحت أكبر منا.. وعلى أية حال لا يمكننا إعادة فترة الصبا والشباب والبدء من جديد.. ولكن يمكننا بذل كل الجهد للاستمتاع بالمزايا التي أتاحتها لنا الظروف ومنحتها لنا الحياة.

يبدأ بعض المتقاعدون بتجميع كافة السلبيات الحالية والماضية في حياتهم.. ويضعونها دفعة واحدة في مركز تفكيرهم.. كالإحساس بالفراغ والملل القاتل.. والوحدة الموحشة وفقدان الأصدقاء.. وكبر السن والنوم المتقطع وتذكر الموت.. وقلة صحتهم وعافيتهم.. وأنهم فئة مهملة وغير مهمة.. بالإضافة إلى كل ما صادفوه من سوء الحظ في الماضي.. وندم على ما ارتكبوه من أخطاء وغيرها.. تتحالف كل تلك السلبيات لتشعرهم بأن لا شيء يستحق الانفعال والتحمس له.. وأن كل الأمور والأحداث أصبحت بالنسبة لهم سواء.. لا فرق أن جرت بهذا الاتجاه أو ذاك.. أنه شعور مميت يفقد فيه المرء طعم الحياة ومعناها.


 لكن ماذا لو قلبنا الجانب الآخر من صفحة الحياة.. سنجد ان التقاعد يتيح للفرد الفرصة لكي يسترخي أن أراد بعيداً عن أية قيود.. أو يمارس أنشطة يحبها.. أو يقضي أوقاتاً أكثر مع من يعزهم ويرتاح إليهم.. وأن كانت هناك سلبيات في حياته.. فمن يعيش في هذه الحياة من دون منغصات سواء كان متقاعداً أو عاملاً.. لكن في كل الأحوال عليه أن لا يتركها تتحكم وحدها في كل حياته لتجعل منه يعيش أقل سعادة ورضا.

ماذا يفقد الفرد
عندما يترك الفرد العمل؟

تشجع أو تفرض بعض الشركات الخاصة على الموظفين العمل بجهد كبير وتحت الضغط لساعات طويلة لصالحها.. دون مراعاة لأي شيء يتعلق بأولئك الموظفين " ظروفهم الشخصية.. صحتهم.. أوضاع أسرهم".. أما البعض الأخر من الموظفين فهم من اختاروا وجعلوا من العمل كل حياتهم سواء كان ذلك لأسباب مادية أو معنوية.
وفي كل الحالتين جعلهم العمل متعبين جداً أو صنع حياة مملة لهم.. فكل ما يريدونه هو أن يناموا أكثر.. علينا أن نتخيل ماذا فعل بهم العمل.. أو ماذا صنعوا هم من حياتهم العملية.

 ومن هنا علينا أن نتساءل ماذا سيعمل هؤلاء أثناء الإجازة الطويلة جداً " التقاعد"؟ فهناك أناس متعبين مرتين.. مرة من العمل.. والمرة الثانية من عدم العمل. 

عموماً العمل يشبع جوانب عدة من حياة الفرد يفقدها بترك العمل وهي:

§        يفقد الفرد المصدر المالي أو جزء منه
العمل هو مصدر رزق أساسي لغالبية الناس أن لم يكن الوحيد.. وحاجتهم إلى المال هي حاجة متنامية.. وربما تتعدى المتطلبات الأساسية إلى الكماليات.

في الصغر تعلمنا السعي لامتلاك الأشياء.. ثم نكبر ونستمر في نفس المنوال.. ونعمل بجد لشراء بيت أكبر لامتلاك أشياء أكثر لا نحتاجها كلها.. ولدى البعض استعداداً أكبر للتضحية ويضيع قدراً كبيراً من سعادته.. ويسبب آلام للآخرين أو يسببها الآخرون له في سبيل الحصول على تلك الأشياء.. وما أن يمتلكوها بعد ذلك لا يعيروها اهتماماً.. فأية تضحيات تستحقها تلك الأشياء.

§        يفقد الفرد قيمته وهويته التي حددها العمل
يربط الفرد تحديد من هو بطبيعة عمله.. فهو إما مهندس أو طبيب أو غير ذلك.. وهذه الصفة تتغلب على كل صفاته الأخرى.. بالرغم من أن وظيفته لم تكن سوى إحدى مكونات شخصيته.. فقيمة الإنسان تتحدد بدوره في المجتمع الذي يعيش فيه.. وهذا الدور يمارسه من خلال عمله الذي يعرفه به مجتمعه ويحدد له صفته الإنسانية.. وفقدان هذا الدور قد يعني فقدان الصفة الإنسانية .. والعمل يمثل لدى البعض أهمية فصوى.. لذى قد يتسبب فقدانه بأنهيار عصبي لهم.

حتى أن اليابانين يطلقون أسم كروشي على الموت المفاجئ بسبب العمل


§        يفقد المدراء والرؤساء السلطة التي منحها لهم العمل

من يشغل وظيفة إشرافية أو قيادية.. قد يشعر بالزهو لأنه يتحكم بالآخرين " عملهم ومستقبلهم".. لذلك ترى تعلقه الشديد بالعمل لأنه متعطش للسلطة.. فالبعض يشعر بالبطولة عندما تكون لديه مسئوليات كبيرة وسلطة وتقدير بمقدار منصبه وكأن لحظة توليه المنصب هي لحظة دائمة.


يتمسك المدير بالأشياء التي يملكها خصوصاً تلك التي تظهر احترام الآخرين له.. كوظيفته ذات السلطة والمال.. فمهما ساءت الظروف في الوظيفة زاد تمسكه بها وبكرسي القيادة لأنهما مصدر الاحترام.. ومن هنا ندرك كم من البشر أذلهما المال والرغبة الجامحة بالسلطة " فليس المهم أن يكون العرش مريحاً.. المهم أنه عرش"


 §        العمل يؤثر في المظاهر الاجتماعية
يسعى الكثير من الناس وراء المظاهر المادية ومصاحبة المهمين وأصحاب المناصب.. والادعاء بان فلان حادثني وعلان استدعاني واستشارني وغيرها خصوصاً أثناء ممارستهم لعملهم.. يوهمون ذاتهم والبعض منهم يوهم غيره ليحذو حذوه في ادعاءات الأهمية الاجتماعية وما أكثر أنواعها.. بالرغم من إدراك غالبية الناس بأن المظهر قد يختلف عن الجوهر.. لكنها لا زالت تتأثر بالمظهر.


فالصبار رغم قسوة مظهره هو وردة.. والفراشة رغم جمالها هي حشرة. 

المشكلة أصبحت أن المظاهر الاجتماعية أهم من حاجاتنا الخاصة.. المجتمع والأهل والأصدقاء والصحافة والتلفزيون والراديو ومكاتب سفر وغيرها يريدوننا أن نفعل ونتصرف بطريقة ما.. ترى الفرد يعود من إجازة سيئة ليضع ابتسامته الأولى منذ ذلك الحين حتى يخبر الآخرين كيف كانت إجازته ناجحة وممتعة..  ذهاب البعض إلى المتاحف أو الأماكن السياحية فقط لأخذ الصور وإطلاع الغير عليها.. مع العلم بأن هذه الأماكن لا تعني لهم شيئاً ولم يسافروا أصلا لهذا الغرض.

العديد من الناس تخاف من الفشل.. لأنهم يعتقدون أن بالنجاح وحده سيحترمهم الآخرون وسيحبونهم.. غالبية الناس تفكر بالآخرين بطريقة ناقدة.. سواء كانوا ناجحين أو فاشلين.. فينسبونفشلهم ونجاح الآخرين إلى الحظ، وإذا كان الفرد يرى ما يراه المجتمع فانه مثله، وفي نفس الوقت ضحيته، فبعض المجتمعات تعتبر أن لا قيمة لأي إنسان إلا بما يملك من مال أو سلطة، لذلك ليس المطلوب من الفرد أن يجاري مجتمعه في كل الأمور ولا يقدر البشر إلا بأموالهم وسلطتهم.




أحياناً يتحول النجاح سلباً على صاحبه.. فغروره يجعله يريد من الآخرين أن يشعروا بالموقع الذي تبوؤه بناءً على نجاحه.. فهو يقارن ما أصبح يملك بما لا يملكون.. فان لم يشعروا بالفارق وكانوا راضين عن حياتهم.. تجده  يتساءل كيف يسعد من هم أقل منه شئناً.. وكأن السعادة حكراً على ما يملكه الفرد والمنصب الذي يشغله.


من يلوم المرء عند إحساسه بعدم الاستمتاع أو عدم الرضا؟ إذا لم يلم غير نفسه فأنه ترك حياته يتحكم بها الآخرون أو الظروف.. ليتآمرا عليه ويقفا أمام استمتاعه ورضائه.



§        العمل ينظم حياة الفرد و يعوده على الروتين
منذ ولادتنا نجد أمامنا هيكل لنظام حياة جاهز الذي يبدأ بمرحلة التعلم.. ثم مرحلة العمل التي هي جني ثمار التعلم.. وهي بدورها تهيئ إلى مرحلة الزواج وتكوين الأسرة.. هذا النظام المعد سلفاً يتأثر بخروجنا من هيكله عند ترك العمل والدخول في مرحلة التقاعد التي تتطلب نظرة ونظاماً جديداً يتناسب مع حياة التقاعد.

ففي البداية تبدوا بعض الأمور جميلة عند ترك العمل.. كعدم الصحو مبكراً من النوم أو الاستعجال بالإفطار.. وعدم الدخول في زحام السيارات في الصباح أو في نهاية الدوام.. بمعنى آخر عدم ترك الساعة تتحكم بنا.. أي أن العمل هو من يجعلنا منظمين وملتزمين بالنظام.. وخسارة الهيكل والروتين يمكن أن تخلق فوضى.. خصوصاً للإفراد المنضبطين.. ويقوم البعض تعويضاً لذلك بملئ الوقت كيف ما كان لتمر الأيام.. ومثل هذا الوقت يمر دون أية متعة في العيش.. ويصبح هو القاعدة وليس الاستثناء.
المشكلة أن غالبيتنا وبغض النظر على مدى قدرتنا على الابتكار نحب هيكل النظام والروتين ونرتاح مع ما تعودناه.. فنحن أسرى لعاداتنا وقد يكون التقاعد واقع جديد لا يستطيع البعض تعوده والتكيف معه.. لان الحرية لفترة طويلة لم يعتادوها ولا يعرفون كيف يتعاملون معها.. وفي حالات متطرفة تتدهور صحتهم النفسية والعقلية.

لذلك يستمر البعض في أسلوب حياته العملية وكأنه لم يترك وظيفته ويتقاعد.. أو لا يعرف أسلوب آخر يعيشه.. وهذا يبين مدى ترسخ الوظيفة في الشخصية.


أما إذا تعلم الفرد أن يكون مستقلاً وخلاقاً.. فان خسارة هيكل النظام قد يكون نعمة وليس نقمة.. فليس من الممكن أن تكون هناك وظيفة قد استخدمت كل طاقته ومواهبه الحقيقية.. لذا فالتقاعد فرصة مناسبة لعمل ما يريد بدلاً من عمل ما يراد منه.. خصوصاً إذا أحب أن يمارس مهنته وخبرته في عمل خاص به كما يهوى ويرغب به.

على المرء أن يتعلم من الطبيعة التي تسير وفق نظام وقوانين ثابتة.. وهو جزء منها.. فأن عاش بدون نظام في حياته لن يجني من وراء ذلك سوى التعب.




أمثلة صعبة من حالات التقاعد

q       متقاعد يعيش كالمراهقين وكأنه يرفض واقعه الجديد وتقدمه بالعمر.. فيقلد الشباب ويتابع الموضة.. أو حتى قد يتزوج مرة أخرى.

q       تدهور صحة المتقاعد.. لإحساسه بالكآبة والملل وفقدان أهميته كإنسان كان له دور.. ويمكن مشاهدة حلقة

q       متقاعد لا يدري ما يفعل.. يتعامل مع كل يوم بيومه.. ويدفعه الفراغ لمشاهدة التلفاز لأوقات طويلة والنوم الكثير وممارسة الكسل.. يسعى وراء الراحة.. لكن في النهاية الراحة متعبة.

q       متقاعد يبالغ في العصبية.. فيشكو ويتذمر باستمرار ويختلف مع الزوجة والأبناء ومع معظم من يصادفهم.

q       دخول بعض المتقاعدين في مشاريع اقتصادية فاشلة.. غالبها ليس في مجال خبرتهم.. فقط من أجل ملئ الفراغ بأية طريقة.

q       ذهاب المتقاعد إلى مكان عمله لزيارة زملاءه لكي يبين لهم انه سعيد بتقاعده.. وقد تخلص من كل ما يعانون منه.. لكن مع مرور الوقت ينفصل عنهم نفسياً.. ولا يجد ما يقوله سوى السلام والحديث عن أمور عامة.. لأنه لم يعد يعايش تفاصيل حياتهم وتخف زياراته.. ويفقد بذلك شعوراً كان يجعله متميزاً عن غيره.

q       تعرض المتقاعد لمشاكل مالية.. فدخله لا يكفي حتى حاجاته الأساسية.



حيرة وتردد المتقاعد
 تضعنا الحياة كل يوم في مفترق الطرق.. وتجبرنا على اتخاذ قرار معين.. سواء أكان بسيطاً أو مهماً أو حتى مصيرياً.. فالمرء بين ما يريده هو ويرضى به الآخرون.. وبين ما يريده قلبه ويرفضه عقله أو يمنعه ضميره.. وباختياره بديلاً لابد من خسارة شيء ما.. والإنسان لا يريد أن يخسر شيئاً.. لذلك يعتريه التردد خوفاً من الوقوع ضحية اختيار خاطئ في أحيان كثيرة..

 يتراوح عقله بين أفكار شتى تتنازع أحياناً.. يحتار ويغرق بين خياراته وحساباته ويتوه في الطريق.. ولا من دليل يرشد.. ولا من استشارة تشفي غليل.. ويستمر عقله في حساباته.. كما هي الأغنية العراقية

التردد آفة فأن لم يحدد ويبلور الفرد ما يريد لن يستطيع اتخاذ قرار..


الحيرة حالة ليست مستغربة يمر بها كل إنسان.. تختلف حدتها ومدتها من شخص إلى آخر ومن موقف لغيره.. والحيرة بطبيعتها حالة زمنية مؤقتة.. أما إذا طالت وتكررت أمام كل مشكلة تصبح معضلة يمكن أن تحول شخصية الفرد إلى حالة مترددة تعيش في قلق ووسواس.. تضيع على نفسها فرصاً هامة.‏
من الأسباب التي تجعل الإنسان يقف موقف الحائر والمتردد تجاه خياراته هي عدم توفر الثقة الكافية بالنفس وشكه بقدراته وامكاناته.. وقد تكون التربية مصدر عدم الثقة.. فالحماية الزائدة وما تعوده الفرد من الاتكال والاعتماد على الأهل في كل صغيرة وكبيرة قد تستمر معه حتى الكبر.. كما يزيد نقص المعلومات عن البدائل المتاحة للتعامل مع المشكلة من حيرة الفرد.. وتصعب عليه انتقاء الأنسب منها بما يتلاءم مع ظروفه وتطلعاته.‏


وهناك من يتم اقتياده بواسطة الآخرين.. كالفرد الذي تمنى العمل في الصحافة ووجد نفسه يعمل في البريد.. تزوج بامرأة وكان يريد أخرى.. أنه يعيش حياة من صنع غيره.. لأنه متردد ويخاف من سوء عواقب خياراته لذلك يتكئ على الآخرين.. ثم يلومهم ويلوم العالم على عدم الوصول إلى ما كان يريده.. مع أنه لم يقم بدوره.

والمتقاعد ليس مختلف عن غيره..وقد تراكمت لديه خبرة الحياة ليدرك بأن الحيرة والتردد ليست كلها سلبيات.. فهي يمكن أن تحمي الإنسان من الاندفاع والتهور في اتخاذ القرارات وتساعده في التأمل بالعواقب والنتائج المحتملة.. ويكون

وما يساعده في التخلص من حيرته بناء وتعزيز الثقة في نفسه بمحاولات متدرجة.. كما يمكن التغلب على مسألة نقص المعلومات بالبحث والتقصي والسؤال.. ليفرق الفرد بين الخبر والمعلومة.. وبين ما هي حقيقة وما هو رأي.. ليحدد خياراته المتاحة للتعامل مع المشكلة.. ويفضل أن يسجل ويدون سلبيات وايجابيات كل خيار.. وليس مجرد تقليب الخيارات في ذهنه.

وإذا تضاربت الآراء يبحث عن أهل الاختصاص والمعرفة فلديهم وجهة نظر مستقلة عن المشكلة وهم لا يعيشوا داخل معمعتها.. ثم يفكر بروية ويلقي بنظرة هادئة ومعمقة على هذه الخيارات كي يقرر أيهما أفضل وأنسب بالنسبة له.. لأن إرجاء البت في القرارات قد يصل بالفرد إلى أن يجبره الزمن ليحسم أمره بسرعة ليتخذ أي قرار حينها.. أو القبول بالأمور كما تحدث.. فلا وقت للتردد والحياة لا تنتظر.. أن أي قرار يتطلب قدراً من المخاطرة والتضحية بأمر ما.. والإقدام والخطأ أحياناً أفضل من التردد.



   المتقاعد اللامنتمي

اللامنتمي بصفة عامة هو فرد يدرك بأن الفوضى تتجذر في حياة الناس .. وهي أكثر عمقاً من النظام الذي يدعون الخضوع له.. لكنه لا يستطيع المجاهرة بعدم قناعته ورفضه لكل ما يدور من حوله.. فقد ينعت بالمجنون أو المتهور أو المغرور.. وهو يريد أن يكون حراً في فكره وروحه.. إلا أنه يدرك صعوبة الحصول على مثل هذه الحرية فيكتفي بشعور اللامنتمي.


إنه المريض الوحيد الذي يدرك أنه مريض في بيئة اجتماعية لا تعي مرضها.. تراه مستسلماً حيناً ومتمرّداً حيناً آخر.. وهو يرفض أن يكون جزءا من سياسة القطيع.. ولا يجد دوراً يناسبه في الحياة ليؤديه بشكل جيد.. ولا يجد أهدافاً حقيقية تستحق العناء والجدية .


أن عدو اللامنتمي هو الإنسان البرجوازي المولود دفعة واحدة الذي يظن بأن ما هو متوفر لطبقته هو كل الحياة.. ولكن ربما العدو الحقيقي لللامنتمي هو الإنسان الذي يعيش في القطيع ولا ينظر خارج الصندوق.

 شعور اللامنتمي قد يداهم المتقاعدين.. خصوصا لأولئك المنغمسين في العمل.. لأنهم كانوا ولمدة طويلة ينتمون للعمل ومتطلباته ولزملائهم العاملين.. وعدم العمل بيئة جديدة وغريبة عليهم.. لا يعرفوا كيف سينتمون إليها.. فهي تتطلب منهم وقتاً ليعتادوا عليها ويألفوها ومن ثم ينتمون إليها والبعض لن يستطيع.. ويرسخ عدم الانتماء ويحوله لشعور دائم لديه.


المتقاعد المقهور

القهر هو أن ترغم على فعل شيء أو قول شيء ليس من إرادتك.. أو عدم إظهار حقيقة مشاعرك وكبتها وعدم القدرة حتى على التعبير عما بداخلك.. يُقهر المرء أي يُهزم.. فالأقوى يقهر الأضعف منه.. وليس هناك الأقوى المطلق.. فلكل قاهر هناك قاهر آخر.. والقهر يكون باستخدام القوة أو التهديد بها ظاهراً أو مبطناً.. كلها وسائل يفعلها القاهرون تحت مسمى الإكراه أو القهر.

 وللقهر والإكراه صور وأشكال عدة.. وقد يقهر الإنسان إنسان آخر.. فالقهر الوظيفي يمارس في علاقة غير متكافئة بين ممارسة القوة من قبل الرئيس في مقابل الخضوع والإذعان من قبل الموظف.. فأكبر أنواع القهر هو قهر الحاجة.. وقد تقهر المرء ظروفه.. فيمارس الفقر عليه القهر المادي.. ونوع الجنس قد يقهر.. كالمرأة التي يتحكم فيها أخيها الأصغر.. أما إذا كان الفرد من الاقليات قد يتعرض للقهر الاجتماعي بسبب لون بشرته أو نسبه أو بسبب عقيدته ومذهبه.. والمصيبة في هذه أنها قد تؤدي حتى لقتله..

 الماضي يقهر الإنسان لأن لا يمكن إعادته وتصحيحه وتغييره.. فيتحسر على الفرص الضائعة التي كانت متاحة له ولم يستغلها.. وأن كان يدرك بأن حصوله عليها قد يكون أو لا يكون لصالحه.. لكنه يبقى متحسراً على إضاعتها.. وكذلك قد يتحسر ويندم على سوء قرارات أتخذها.

قد يتعرض المتقاعد لاحتمالات عدة تقهره.. ككبر سنه ونقص في صحته وماله وشعوره بالوحدة والفراغ وعدم الأهمية والماضي يطارده وغياب هدف محدد في حياته.. ويقهره الخوف من المجهول والخوف من التغيير وانعدام البدائل أمامه.. وقائمة لا نهائية من الاحتمالات تختلف من متقاعد إلى آخر.

آه ما أكبر القهر




وفي هذه الحالة يكون أمام المتقاعد إما أن يقبل بواقعه ويخضع إليه إذا عرف بأنه لا يستطيع مقاومة القهر ولا يستطيع حتى الانسحاب من المكان الذي يمارس عليه القهر.. أو أنه يقبل به ويصبر عليه مؤقتاً لحين زوال عوامل القهر.. أو أن يقاومه ويواجهه لكن عليه أن يتأكد أولاً بأنه يمتلك القوة المناسبة ليتحمل العواقب المترتبة على ذلك.


انتظار شيء ما
دائما ننتظر شيئا ما ليحدث.. نمني النفس (لما ترضى وتأمل) ونرجو لعل وعسى أن يكون ما ننتظره لصالحنا.. نعتقد بانتهاء فترة الانتظار قد تخلصنا من معاناته.. لكن ما أن تنتهي لحظة الانتظار حتى تبدأ لحظة اخرى لأمر جديد في دوامة لا تنتهي.. فكل أمر يجر غيره في سلسلة ابدية.. ونعود دون قصد منا لمحطة الانتظار من جديد.
لحظات الانتظار لا حصر لها.. قد يكون الانتظار للأمور بسيطة.. وقد يكون لأمور هامة أو مصيرية تغير مسار حياة الفرد.. وتحديد ما إذا كانت الأمور بسيطة أو ضرورية أو مصيرية يرجع تقديرها لمن ينتظر.
الانتظار يعني للبعض التوقف.. بينما عجلة الحياة لا تتوقف.. تدور في كل اتجاه وكأنها لا تكترث لما ننتظر.
الوهم قد يجعل المرء ينتظر أمور لن تحدث.. يتردد ويحتار ولا يريد فعل شيء ما.. وكأنه جعل من الانتظار عقاباً اختيارياً.. لكن الخوف الأكبر هو عدم حدوث شيء وتستمر معاناة الانتظار إلى ما لا نهاية.. والأشد ألماً عندما نفقد الأمل ويأخذ الانتظار العمر كله.
نعيش بمرارة منتظرين تلك اللحظات أن تعدي.. نحس أنها بطيئة قاتلة.. ولا ندرك بأننا نستعجل الدنيا ونختصر هذا العمر القصير.. فانتظار شيء ما ليجعلنا سعداء.. هو أفضل شيء يجعلنا نعيش أقل رضا وسعادة بانتظاره.
يلتفت المتقاعد خلفه ليرى كيف انتظر بشغف عندما كان صغيرا ليكبر وينهي المراحل الدراسية منتظراً بلهفة التخرج منها.. لينتظر بعدها الحصول على وظيفة.. وأول مرتب والزواج وتكوين أسرة.. ثم ينتظر الترقية ومرتب أفضل.. وأخيراً ينتظر الخلاص من العمل بالتقاعد.. ويستمر الانتظار بعده.. وكأنه أصبح عادة.
وثقل لحظات الانتظار تتفاوت من فرد لآخر.. وما هو الشيء الذي ينتظره.. فالمتقاعد المتفائل في لحظات الانتظار يحركه الأمل ويغمره شعور من الشوق واللهفة بأن الخير آت.. والمتشائم يفترسه الحذر والهواجس والخوف من المجهول القادم وأن الأسوأ قد يحدث في أي وقت.. ويبقى الانتظار مرهقا لحياتنا.. لأحلامنا التي لا نبوح بها.. نصمت وفي القلب شجون اغرقته في التعب.. نعيش لحظات من القلق بانتظار الفرج للحصول على جواب قاطع ليريح النفس من وساوسها. 
الانتظار ليس كله سيئاً.. فهو اختبار للصبر والحكمة ودعوة لعدم التسرع والقيام بحماقات.. وعلينا ألا ننتظر إلا إذا كنا ملزمين، فهناك أمور تستحق الانتظار مهما طال الوقت في سبيلها.. ولا نجعل من الانتظار يوقف حياتنا ويدعها تتراوح في التردد في مكانها بين القلق والحيرة.. بل أن نشغل أنفسنا في مجالات أخرى تنفعنا أو نتلهى بها لقضاء فترة الانتظار.

وفي الأمور المهمة والمصيرية علينا تهوين الأمر والاستعداد النفسي لتوقع جميع الاحتمالات.. وهنا نستطيع التهيؤ بأن ليس كل شيء في الحياة سيكون على هوانا.
لكن الصدفة أجمل من الانتظار.. لأنها تحدث دون انتظار.

                                    هل نحن نعيش الحياة.. أو فقط موجودون فيها!

المتقاعد والعيش في هامش الحياة
 
المتقاعد يعيش خارج نطاق الحياة الفاعلة.. فالملل والتردد والكسل يملئوا نفسيته ولا يشجعوه.. يلوم نفسه ويلوم غيره ويلوم ظروفه ثم لا يعرف يلوم من.. تضطرب نفسيته ويصيبه الأرق فقد جمع بين قدرات يمتلكها وفراغ لا يستنفذها.. كل مشاكل الوظيفة أهون من عدم العمل.. يريد أن يغير حياته لا يعرف كيف ومن أين يبدأ.. ويخاف حتى من فكرة التغيير فقد تأخذه حيث لا يحب.. عندها يشعر بأنه اصبح في فخ الحياة فيزداد تشاؤمه من المستقبل.

  




بلغ عدد متصفحي مدونة التقاعد والاستعداد له حتى تاريخ 13 – 11 - 2022
51137 متصفحاً